فصل: مطلب أطوار الإنسان رباني عبدة الأوثان وعذاب القبر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب أطوار الإنسان رباني عبدة الأوثان وعذاب القبر:

قال تعالى: {وقدْ خلقكُمْ أطْوارا} 14 من حيث الجنسية كالطير في الضعف والاحتياج عند خروجه من البيضة فلا أضعف ولا أخرج للمداراة منه، وفي الصفة في كمال الخلق، فمنكم العالم والجاهل، والجليل والحقير، والغني والفقير، والكريم والبخيل، والسهل والصعب، والمريض والصحيح، وفي الكيفية في الصور من تمام الخلقة وناقصها، وحسن الخلق وسيئه، وحسن الخلق وقبحه، والدميم والقبيح، وفي ابتداء خلقكم أيضا طورا بعد طور، وتارة بعد تارة، وكرة بعد كرة بصورة تدريجية، من النطفة إلى علقة، إلى مضغة، إلى لحم وعظام، إلى قوام بديع، وبعد تمام خلقكم جعلكم أصنافا مختلفين أيضا في اللون والشكل واللغة والطبع، راجع الآيتين 64/ 67 من سورة المؤمن المارة، والأطوار هي الأحوال المختلفة قال:
فإن أفاق فقد طارت عمايته ** والمرء يخلق طورا بعد أطوار

وفي نقصانه أيضا ضعف في القوى والجوارح إلى أضعف تدريجا إلى حالة الهرم والخرف، فسبحان المبدئ المعيد الفعال لما يريد القائل {أ لمْ تروْا كيْف خلق اللّهُ سبْع سماواتٍ طِباقا} 15 بعضها فوق بعض {وجعل الْقمر فِيهِنّ نُورا} يضيء ليلا {وجعل الشّمْس سِراجا} 16 تضيء نهارا، وإنما سمى الأول نورا والآخر سراجا، لأن نور القمر منعكس عليه من الشمس لاختلاف تشكلاته بالقرب والبعد عنها مع خسوفه بحيلولة الأرض بينه وبينها ونور الشمس، لا بطريق الانعكاس من كوكب آخر، واللّه أعلم، راجع الآية 9 من سورة القيامة وما ترشدك إليه تجد ما يتعلق بالكسوف والخسوف.
{واللّهُ أنْبتكُمْ مِن الْأرْضِ نباتا} 17 بدأ خلق أصلكم آدم عليه السلام من الأرض والناس كلهم من صلبه ولم يأت المصدر من لفظ الفعل ليكون المعنى أنبتكم فنبتم نباتا عجيبا كما هو مشاهد لكم، لأن الإنبات من لفظ الفعل من صفات للّه تعالى وصفاته غير محسوسه لنا، فلا نعرف أن ذلك الإنبات إنبات عجيب إلا بإخبار اللّه تعالى، وهذا المقام مقام الاستدلال على كمال قدرة اللّه تعالى {ثُمّ يُعِيدُكُمْ فِيها ويُخْرِجُكُمْ إِخْراجا} 18 بديعا للحشر والحساب، أي يحييكم بعد إماتتكم بصورة لا يعرفها البشر، لأن الإحياء والإماتة من خصائصه جل شأنه، ثم طفق يعدد عليهم بعض نعمه فقال: {واللّهُ جعل لكُمُ الْأرْض بِساطا} 19 لتمكنوا من التقلب فيها كيفما شئتم، وهذه الآية أيضا لا تنافي كروية الأرض لأنها مبسوطة بالنسبة لما نراه منها، وقد تكون بخلافه، وبسبب عظمها لا تظهر كرويتها للناظرين إلا بأدلة، ثم بين علّة البسط فقال: {لِتسْلُكُوا مِنْها سُبُلا} طرقا {فِجاجا} 20 واسعة وضيقة ومختلفة، والطرق تكون في السهل والجبل، والفجاج في الجبل فقط، وبعد أن ذكرهم بذلك كله وعدد عليهم نعم ربه وخوفهم عقابه، علم بإعلام اللّه إياه عدم إيمانهم، راجع الاية 36 من سورة هود المارة.
{قال نُوحٌ ربِّ إِنّهُمْ عصوْنِي واتّبعُوا} سفلتهم وفقرأءهم {منْ لمْ يزِدْهُ مالُهُ وولدُهُ إِلّا خسارا} 21 في الآخرة يعني رؤساءهم وأغنياءهم لأن مالهم وولدهم وإن كانا من جملة المنافع في الدنيا إلا أنهما بسبب الكفر صارا سببا للخسارة في الآخرة، وقرئ {وولده} بضم الواو لغة بالولد بفتحها ويجوز أن يكون جمعا كالفلك فيصدق على الواحد والمتعدّد، ثم شرع يعدد سيئاتهم فقال: {ومكرُوا مكْرا كُبّارا} 22 مبالغة كبير يقرأ بالتخفيف والتشديد، وذلك لأنهم صدّوا الناس عن اتباعه بشتى الوسائل وسلطوا عليه السفهاء والعيد {وقالوا} رؤساؤهم وقادتهم لأتباعهم وسوقتهم وفقرأئهم وسفلتهم {لا تذرُنّ} لا تتركوا {آلِهتكُمْ} وداوموا على عبادتها، ثم أكدوا النهي وصرحوا بأسمائها فقالوا {ولا تذرُنّ ودّا ولا سُواعا ولا يغُوث ويعُوق ونسْرا} 23 كما يقول لكم نوح، فهذه هي آهتكم فتمكوا بها ولا تنظروا إلى ما يقوله لكم، أفردوا هذه الأصنام الخمسة بالذكر مع أنها داخلة في آلهتهم، لأنها عندهم أعظمها، قالوا كانت ودّ بصورة رجل، وسواع بصورة أنثى، ويغوث بصورة أسد، ويعوق بصورة فرس، ونسر بصورة نسر، وكان لكل منها خدم وحشم وجماعة يعظمونها ويرجونها ويخافونها، ومنهم انتقلت عبادة الأوثان لما بعدهم من الخلق.
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: صارت هذه الأوثان التي كانت تعبد قوم نوح في العرب تعبد، أما ود فكانت لكلب دومة الجندل، وسواع فكانت لهذيل، ويغوث لمراد، ثم صارت لبني غطيف بالجرف عند سبأ، ويعوق لهمدان، ونسر لحمير لآل ذي الكلاع، وهذه غير اللات التي كانت تعبدها ثقيف، والعزّى لسليم، وغطفان وجشم ومناة لخزاعة بقديد، وأساف ونائلة وهبل لأهل مكة، ولذلك سمت العرب أنفسها بعبد يغوث وعبد ودّ وعبد العزّى وغير ذلك {وكبّارا} لغة أهل اليمن، قال قائلهم:
والمرء يلحقه بفتيان الندى ** خلق الكريم وليس بالوضّاء

وقال الآخر:
بيضاء تصطاد القلوب وتستبي ** بالحسن قلب المسلم القراء

بتشديد الضاء في الأول والراء في الثاني، قال نوح عليه السلام {وقدْ أضلُّوا} كبراؤهم {كثِيرا} من الناس {ولا تزِدِ} هذه الأصنام {الظّالِمِين} أنفسهم بعبادتها {إِلّا ضلالا} 24 فوق ضلالهم {مِمّا خطِيئاتِهِمْ} العظيمة {أُغْرِقُوا} بسببها {فأُدْخِلُوا نارا} عقب إغراقهم بلا فاصلة بدليل العطف بالفاء، وهذه الآية تدل على عذاب القبر قبل البعث ويبعد حمله على عذاب الآخرة لإبطال دلالة الفاء، ولوجوب تفسير ادخلوا بفعل الاستقبال الصرف إلى سيدخلون وهو خلاف الظاهر، وتدل أيضا على أن من مات غرقا أو حرقا أو أكلته السباع أو الطير أو الحوت مثلا، أصابه ما أصاب المقبور من عذاب القبر، قال الضحاك: كانوا يغرقون من جانب ويحرقون من آخر، وأنشد ابن الأنباري:
الخلق مجتمع طورا ومفترق ** والحادثات فنون ذات أطوار

لا تعجبن لأضداد إذا اجتمعت ** فاللّه يجمع بين الماء والنار

{فلمْ يجِدُوا لهُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ أنْصارا} 25 يخلصونهم من الغرق لا من قادتهم ولا من أوثانهم، وفي الآية تعريض بتفنيد زعمهم بأن آلهتهم تنصرهم وتهكم في اعتقادهم بها وتوبيخ لهم لأن أصنامهم وزعماءهم أغرقوا معهم.
وقدمنا ما يتعلق بعذاب القبر في الآية 46 من سورة المؤمن وله صلة في الآية 27 من سورة إبراهيم الآتية.
وبعد أن عدد مساوئهم وتحقق إياسه منهم وقد توغر صدره عليه السلام طيلة عشرة قرون تقريبا وهو يدعوهم إلى الإيمان باللّه وترك لأوثان ولم يصغوا له وأصروا على تكذيبهم له وازدادت إهانتهم له، دعا عليهم كما ذكر اللّه {وقال نُوحٌ ربِّ لا تذرْ على الْأرْضِ مِن الْكافِرِين ديّارا} 26 يدور عليها أو يسكن فيها، وهذه الكلمة لا تستعمل إلا بالنفي العام ولم تكرر في القرآن، يقال ما بالدار ديار أو ديّور، أي ما بها أحد، وأصله ديوارا اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت في مثلها.
وإشراك غير قومه بالدعاء يثبت عموم بعثته عليه السلام من حيث آخرها كما أشرنا إليه في الآية 73 من سورة يونس المارة، واستدل بعضهم في هذه الآية على عموم الطوفان، على أن لفظ الأرض يطلق على قطعة منها، قال تعالى: {فأراد أنْ يسْتفِزّهُمْ مِن الْأرْضِ} الآية 103 من سورة الإسراء، إذ المراد بها أرض مصر فقط، وقال تعالى: {وإِنْ كادُوا ليسْتفِزُّونك مِن الْأرْضِ} الآية 71 منها، والمراد بها مكة، لأنه لا قدرة لهم على غيرها، كما أن سلطان مصر لا حكم له على غيرها لقوله تعالى: {لا تخفْ نجوْت مِن الْقوْمِ الظّالِمِين} الآية 25 من القصص في أيضا، إذ لو كان لسلطان مصر سلطان على أرض مدين التي فيها شعيب لما قال هذا الكلام لموسى وفي هذه الآية دليل أيضا على أن البلاء يعم لأن اللّه تعالى أغرق معهم أطفالهم وحيواناتهم، قال تعالى: {واتّقُوا فِتْنة لا تُصِيبنّ الّذِين ظلمُوا مِنْكُمْ خاصّة} الآية 25 من الأنفال، وقدمنا ما يتعلق في هذا في الآية 44 من سورة يونس فراجعه.
ثم بين السبب في طلب إهلاكهم جميعا بقوله: {إِنّك إِنْ تذرْهُمْ} يا سيدي على ما هم عليه من الكفر {يُضِلُّوا عِبادك} بسوقهم إلى الضلال.
قال ابن عباس: كان الرجل منهم يأخذ ابنه إلى نوح عليه السلام ويحدره من اتباعه ويقول له إن أبي حذرني اتباعه وها أبي أحذرك منه فاحذره، فأوص ولدك من بعدك بعدم اتباعه، ولهذا قال عليه السلام {ولا يلِدُوا إِلّا فاجِرا كفّارا} 27 عريقا في الكفر، إذ تلقاه عن أبيه كما تلقاه أبوه عن جده، ولشدة إصراره عليه بوصي به ولده من بعده.
ثم انه عليه السلام لما رأى دعوته هذه قد أجيبت بإلهام من اللّه تعالى له وظن أن ذلك ناشئ من عدم قيامه بالدعوة الإلهية كما ينبغي من إدمان الصبر وتحمل الأذى استغفر ربه عز وجل وقال: {ربِّ اغْفِرْ لِي} ما وقع مني من التقصير في خدمتك ودعوة عبادك واستعجالي عليهم بالدعاء، وهذا على الاحتمال وهضما للنفس، وإلا فهو عليه السلام مبرا من التقصير وحاشاه أن يوصف بالاستعجال بعد صبره عليهم ألف سنة تقريبا، ولكن الأنبياء يخافون ربهم بقدر قربهم منه، والعبد كلما قرب من ربه عظمت هيبته في صدره وازداد خوفا منه وبدأ بطلب المغفرة لنفسه أولا، لأنها أولى بالتقديم، وهكذا كان محمدا صلى الله عليه وسلم يبدأ بنفسه بالدعاء ثم يثني بالمتصلين به لأنهم أحق من غيرهم، فقال: {ولِوالِديّ} أبيه لمك بن متوشلح وأمه شمناء بنت انوش، قالوا وكان بينه وبين آدم عليه السلام عشرة آباء كلهم مؤمنون، ثم عمم بدعائه فقال: {ولِمنْ دخل بيْتِي مُؤْمِنا} قيد بالمؤمن لإخراج الكافر لأنهم من جملة من دخلوا بيته {ولِلْمُؤْمِنِين والْمُؤْمِناتِ} عامة فتشتمل دعوته هذه كل مؤمن ومؤمنة من آدم إلى آخر الدوران {ولا تزِدِ الظّالِمِين إِلّا تبارا} 28 هلاكا ودمارا وخرابا، فاستجاب اللّه تعالى دعاءه فأغرقهم جميعا على الصورة المارة في قصته في سورة هود المذكورة، أما وقد أجاب اللّه دعاءه بإهلاك قومه ومن على أرضه في زمنه، فهو أكرم من أن لا يجيب دعاءه بالمغفرة له وللمؤمنين قبله وبعده بمنه وكرمه وعسى أن تكون ممن شملته دعوته بالمغفرة لعموم لفظها بلطفه وعطفه ومنّه.
ولا توجد سورة مختومة بما ختمت به، ولم تكرر في القرآن أيضا، ومثل ما بدئت به مر في سورة القدر.
هذا، واللّه أعلم، وأستغفر اللّه، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العظيم، وصلى اللّه وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، آمين. اهـ.

.فصل في الوقف والابتداء في آيات السورة الكريمة:

.قال زكريا الأنصاري:

سورة نوح عليه السلام:
مكية.
{أليم} كاف.
{إلى أجل مسمى} حسن وكذا {تعلمون}.
{فرارا} كاف وكذا {استكبار}.
{جهارا} صالح وكذا {أنهارا}.
{أطوارا} تام.
{سراجا} حسن.
{إخراجا} تام وكذا {فجاجا}.
{كبارا} كاف.
{ونسرا} تام وكذا {كثيرا} و{ضلالا} و{أنصارا}.
{ديارا} حسن.
{كفارا} أحسن منه.
{والمؤمنات} تام.
وكذا آخر السورة. اهـ.